الجمعة، 14 فبراير 2014

لاستسهلن الصعب او ادرك المنى فما انقادت الآمال الا لصابر



قيل: لما رجع عمر، رضي الله عنه، من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها فقصدها.
فقالت: ما فعل عمر رضي الله عنه؟ قال: قد أقبل من الشام سالماً.
فقالت: يا هذا! لا جزاه الله خيراً عني! وقال: ولمَ؟ قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين ديناراً ولا درهماً.
فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله ! والله ما ظننت أن أحداً يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها.
فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: وا عمراه، كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر.
ثم قال لها: يا أمة الله! بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله.
فقال عمر: لست أهزأ بك.
ولم يزل حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً.
فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه؟ فقال لها عمر رضي الله عنه: لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا، بخمسة وعشرين ديناراً. فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على ذلك علي وابن مسعود.
ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي.
عمر والشاب القاتل وأبو ذَرّ
قال شرف الدين حسين بن ريان: أغرب ما سمعته من الأخبار، وأعجب ما نقلته عن الأخيار، ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، ويسمع كلامه قال: بينما الإمام جالس في بعض الأيام، وعنده أكابر الصحابة، وأهل الرأي والإصابة، وهو يقول في القضايا، ويحكم بين الرعايا، إذ أقبل شاب نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشبان، نظيفا الثياب، قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين، ولبباه. فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهما وإليه، فأمرهما بالكف عنه. فأدنياه منه وقالا: يا أمير المؤمنين، نحن أخوان شقيقان، جديران باتباع الحق حقيقان. كان لنا أب شيخ كبير، حسن التدبير، معظم في قبائله، منزه عن الرذائل، معروف بفضائله، ربانا صغاراً، وأعزنا كباراً، وأولانا نعماً غزاراً، كما قيل:
لنا والدٌ لو كان للناس مثله ... أبٌ آخرٌ أغناهم بالمناقب
خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقطف يانع ثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب. ونسألك القصاص بما جناه، والحكم فيه بما أراك الله.
قال الراوي: فنظر عمر إلى الشاب وقال له: قد سمعت، فما الجواب؟
والغلام مع ذلك ثابت الجأش، خال من الاستيحاش، قد خلع ثياب الهلع، ونزع جلباب الجزع، فتبسم عن مثل الجمان، وتكلم بأفصح لسان، وحياه بكلمات حسان ثم قال: يا أمير المؤمنين، والله لقد وعيا ما ادعيا، وصدقا فيما نطقا وخبرا بما جرى، وعبرا بما ترى، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك: اعلم، يا أمير المؤمنين، أني من العرب العرباء، أبيت في منزل البادية، وأصيح على أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعض طرائقها، إلى المسير بين حدائقها، بنياق حبيبات إلي، عزيزات علي، بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج. فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولته بمشفرها، فطردتها من تلك الحديقة. فإذا شيخ قد زمجر، وزفر، وتسور الحائط، وظهر وفي يده اليمنى حجر، يتهادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذلك الحجر، فقتله وأصاب مقتله. فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب، توقدت في جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه، فضربته به، فكان سبب حينه، ولقي سوء منقلبه، والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين، فأمسكاني وأحضراني كما تراني.
فقال عمر: قد اعترفت بما اقترفت، وتعذر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص.
فقال الشاب: سمعاً لما حكم به الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، لكن لي أخ صغير، كان له أب كبير، خصه قبل وفاته بمالٍ جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وأسلم أمره إلي، وأشهد الله علي، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخذت لذلك مدفناً، ووضعته فيه، ولا يعلم به إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي، ذهب الذهب، وكنت أنت السبب، وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن أنظرتني ثلاثة أيام، أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافياً بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام.
فأطرق عمر، ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه؟ قال: فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذَرّ دون الحاضرين، وقال: هذا يكفلني ويضمنني.
قال عمر: يا أبا ذر، تضمنه على هذا الكلام؟ قال: نعم، أضمنه إلى ثلاثة أيام.
فرضي الشابان بضمانة أبي ذرّ وأنظراه ذلك القدر. فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذرّ قد حضر والخصم ينتظر. فقالا: أين الغريم يا أبا ذرّ؟ كيف يرجع من فر، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا.
فقال أبو ذَرّ: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي، وبالله المستعان.
فقال عمر: والله، إن تأخر الغلام، لأمضين في أبي ذرّ، ما اقتضته شريعة الإسلام.
فهمت عبرات الناظرين إليه، وعلت زفرات الحاضرين عليه، وعظم الضجيج وتزايد النشيج، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول.
فبينما الناس يموجون تلهفاً لما مر، ويضجون تأسفاً على أبي ذرّ إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقاً ويتكلل عرقاً وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر.
فعجب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه.
فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى، رحمه الطالب وعفا، وتحققت أن الموت إذا حضر، لم ينج منه احتراس، كيلا يقال: ذهب الوفاء من الناس.
فقال أبو ذَرّ: والله، يا أمير المؤمنين، لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم. ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني، فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس، كيلا يقال: ذهب الفضل من الناس.
فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا، فبدل وحشته بإيناس، كيلا يقال: ذهب المعروف من الناس.
فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه، واستفزر مروءة أبي ذرّ دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثنائه. وتمثل بهذا البيت:
من يصنع الخير لم يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما. فقالا: إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى.
قال الراوي: فأثبتها في ديوان الغرائب، وسطرتها في عنوان العجائب.
عمر والهرمزان
وأحضر الهرمزان بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه مأسوراً فدعاه إلى الإسلام، فأبى، فأمر بضرب عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، قبل أن تقتلني اسقني شربة من الماء، ولا تقتلني ظمآن.
فأمر له عمر بقدح مملوء ماء، فلما صار القدح في يد الهرمزان، قال: أنا آمن حتى أشربه؟ قال: نعم لك الأمان.
فألقى الهرمزان الإناء من يده فأراقه، ثم قال: الوفاء يا أمير المؤمنين.
فقال عمر رضي الله عنه: دعوه حتى أنظر في أمره.
فلما رفع السيف عنه، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
قال عمر، رضي الله عنه: لقد أسلمت خير الإسلام فما أخرك؟ قال: خشيت أن يقال إني أسلمت خوفاً من السيف.
فقال عمر: إنك لفارس حكيم، استحققت ما كنت فيه من الملك.
ثم إن عمر رضي الله عنه، بعد ذلك كان يشاوره في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه.
وسيأتي نظير ذلك في أخذ الأمان بالحيلة.
خبر جبلة بن الأيهم
لما هرب من عمر إلى هرقل وتنصر
جبلة بن الأيهم وتنصره
ومما ذكره عبد الملك بن بدرون، شارح قصيدة عبد المجيد بن عبدون، عما وقع لجبلة بن الأيهم حين لطم الفزاري على وجهه لما داس على ردائه، وقال له عمر رضي الله عنه: دعه يقتص منك، أو ما هذا معناه، فقال لعمر: وهل استوي أنا وهو في ذلك؟ فقال له: نعم، الإسلام ساوى بينكما. فقال: أجلني إلى غد. فلما أصبح مضى إلى قيصر ملك الروم، وارتد ثم ندم وقال أبياتاً، وهي هذه:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة ... فبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ولما تنصر جبلة بن الأيهم ولحق بهرقل، صاحب القسطنطينية، أقطعه هرقل الأموال والضياع، وبقي ما شاء الله.
ثم أن عمر رضي الله عنه بعث إلى قيصر رسولاً يدعوه إلى الإسلام أو إلى الجزية. فلما أراد الانصراف قال هرقل للرسول: ألقيت ابن عمك هذا الذي عندنا؟ يعني جبلة الذي أتانا راغباً في ديننا.
قال: لا! قال: فالقه ثم ائتني أعطك جواب كتابك.
قال الرسول: فذهبت إلى دار جبلة فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثرة الجمع مثلً ما على باب هرقل فلم أزل أتلطف بالإذن حتى أذن لي فدخلت عليه، فرأيته أصهب اللحية ذا سبال، وكان عهدي به أسود اللحية والرأس، فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب، فذرها على لحيته حتى أصهبت، وهو قاعد على سرير من قوارير على قوائمه أربعة أسود من ذهب. فلما عرفني رفعني معه على السرير، فجعل يسألني عن المسلمين، فذكرت له خيراً وقلت له: قد أضعفوا أضعافاً على ما تعرف. فقال: وكيف عمر بن الخطاب؟ قلت: بخير. قال: فرأيت الغم في وجهه لما ذكرت له منه سلامة عمر. ثم انحدرت عن السرير فقال: لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. فقال: نعم! نهى صلى الله عليه وسلم ولكن نقّ قلبك ولا تبال على ما قعدت.
فلما سمعته يقول ما قاله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيه فقلت له: ويحك يا جبلة، ألا تسلم، وقد عرفت الإسلام وفضله؟ فقال: أبعد ما كان مني؟ قلت: نعم، قد فعل رجل من فزارة أكثر مما فعلت، ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف ثم رجع إلى الإسلام وقبل منه وخلفته بالمدينة مسلماً.
 

ليست هناك تعليقات: