الجمعة، 14 فبراير 2014

ما تبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه


كرم الضيافة مِن صِفات العرب التي اشتهروا بها قبل الإسلام، ثم جاء الإسلامُ مؤكِّدًا لها، حاثًّا عليها، مشيدًا بفضلها، وكم مِن قصص تُروَى أشبه بالأساطير، بيد أنها عين الواقع! فقد يبيت أحدهم طاويًا بعد أن يقدِّم عَشاءه لضيفه، راضيًا مسرورًا، وربما ذَبَح شاتَه أو عنَزَه التي لا يملك سِواها لتكونَ قِرًى للضيف، ومنهم من كان يشبُّ النار في قمَّة جبل أو مرتفع من الأرض؛ ليهتديَ إليها الجائعُ والمقرور.
 
قال العرندس أحد بني بكر بن كلاب:
هَيْنُونَ لَيْنُونَ أَيْسَارٌ ذَوُو كَرَمٍ
سُوَّاسُ مَكْرُمَةٍ أَبْنَاءُ أَيْسَارِ
إِنْ يُسْأَلُوا الْخَيْرَ يُعْطَوهُ وَإِنْ خُبِرُوا
فِي الْجَهْدِ أُدْرِكَ مِنْهُمْ طِيبُ أَخْبَارِ
وَإِنْ تَوَدَّدْتَهُمْ لاَنُوا وَإِنْ شُتِمُوا
كَشَفْتَ أَذْمَارُ شَرٍّ غَيْرَ أَشْرَارِ
فِيهِمْ وَمِنْهُمْ يُعَدُّ الْخَيْرُ مُتَّلِدَا
وَلاَ يُعَدُّ نَثَا خِزْيٍ وَلاَ عَارِ
مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاَقَيْتُ سَيِّدَهُمْ
مِثْلُ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي
لاَ يَنْطِقُونَ عَلَى الْفَحْشَاءِ إِنْ نَطَقُوا
وَلاَ يُمَارُونَ إِنْ مَارَوْا بِإِكْثَارِ
 
وقال حاتم الطائي:
أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبْلَ إِنْزَالِ رَحْلِهِ
وَيَخْصَبُ عِنْدِي وَالْمَحَلُّ جَدِيبُ
وَمَا الْخَصْبُ لِلْأَضْيَافِ مِنْ كَثْرِةِ الْقِرَى
وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ
 
وقال أيضًا:
أَيَا ابْنَةَ عَبْدِاللَّهِ وَابْنَةَ مَالِك
وَيَا ابْنَةَ ذِي الْبُرْدَيْنِ وَالْفَرَسِ الْوَرْدِ
إِذَا مَا عَمِلْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ
أَكِيلاً فَإِنِّي لَسْتُ آكِلَهُ وَحْدِي
كَرِيمًا قَصِيًّا أَوْ قَرِيبًا فَإِنَّنِي
أَخَافُ مَذَمَّاتِ الْأَحَادِيثِ مِنْ بَعْدِي
وَكَيْفَ يُسِيغُ الْمَرْءُ زَادًا وَجَارُهُ
خَفِيفُ الْمِعَى بَادِي الْخَصَافَةِ وَالْجَهْدِ
وَلَلْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ زِيَارَةِ بَاخِلٍ
يُلاَحِظُ أَطْرَافَ الْأَكِيلِ عَلَى عَمْدِ
وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا
وَمَا فِيَّ إِلاَّ تِلْكَ مِنْ شِيمَةِ الْعَبْدِ
 
ممَّا قيل في هجْو مَن لا يكرمون الضيف:
لاَ أَشْتُمُ الضَّيْفَ إِلاَّ أَنْ أَقُولَ لَهُ
أَبَاتَكَ اللَّهُ فِي أَبْيَاتِ عَمَّارِ
أَبَاتَكَ اللَّهُ فِي أَبْيَاتِ مُعْتَنِزٍ
عَنِ الْمَكَارِمِ لاَ عَفٍّ وَلاَ قَارِ
جَلْدِ النَّدَى زَاهِدٍ فِي كُلِّ مَكْرُمَةٍ
كَأَنَّمَا ضَيْفُهُ فِي مِلَّةِ النَّارِ
 
ومما قيل في مدح الجود:
                                فإن تسألي في الناس عنا فإننا             حليئ العلى و الأرض ذات المناكب
وَلَيْسَ لَنَا عَيْبٌ سِوَى أَنَّ جُودَنَا
أَضَرَّ بِنَا وَالْبَأْسُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
فَأَفْنَى النَّدَى أَمْوَالَنَا غَيْرَ ظَالِمٍ
وَأَفْنَى الرَّدَى أَعْمَارَنَا غَيْرَ عَائِبِ
أَبُونَا أَبٌ لَوْ كَانَ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ
أَبٌ مِثْلُهُ أَغْنَاهُمُ بِالْمَنَاقِبِ
 
قيل لأعرابي: ما اسمُ المَرَق عندَكم؟ قال: السخين، قيل: فإذا بَرِد، قال: لا ندعه حتى يبرد.
 
كان منادي سعد بن عبادة يقول على أُطمه: مَن أراد خبزًا ولحمًا فليأتِ أُطمَ سعد، وخلفه قيس بن سعد ابنه، وكان يفعل كفِعْله، فإذا أكل الناس رفع يدَه إلى السماء، وقال: اللهمَّ إني لا أصلح على القليل، ولا يصلح القليل لي، اللهمَّ هبْ لي حمدًا ومجدًا؛ لأنَّه لا حمد إلاَّ بفِعال، ولا مجدَ إلا بمال.
 
مما قيل في ذم البخل:
وَهَبْنِي جَمَعْتُ الْمَالَ ثُمَّ خَزَنْتُهُ
وَحَانَتْ وَفَاتِي هَلْ أُزَادُ بِهِ عُمْرَا
إِذَا خَزَنَ الْمَالَ الْبَخِيلُ فَإِنَّهُ
سَيُورَثُهُ غَمًّا وَيُعْقِبُهُ وِزْرَا
 
ومن أخبار الأَكَلة والمزاح على الطعام هذه الحِكاية:
دخل الحمدونيُّ على رجل وعندَه أقوام بين أيديهم أطباق الحلوى، ولا يمدُّون أيديهم، فقال: لقد ذكرتموني ضيفَ إبراهيم، وقول الله – تعالى -: ﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ [هود: 70] ، ثم قال: كلُوا رَحِمكم الله، فضحِكوا وأكلوا.
 
البخل والسخاء:
البخيل شخصٌ بغيض إلى الناس يتحاشون قُربَه، ويبتعدون عنه ويملُّه أقربُ الناس إليه، ويزهد فيه عارفوه، فهو كَلٌّ وعالة، وعامل عائِق عن التعاون المثمِر، والمكارم الحميدة، ولقد ذمَّ الله البخل، وشدَّد في إنكاره، والتنفير عنه، وعاب مَن يبخل ويأمر الناس بالبخل، وتوعَّدهم بعذاب مهين، وعقاب أليم.
 
والسخاء يعطف القلوب، ويُكسِب المودة، ويُقوِّي الأواصر، ويستر العيوب، ويجعل للمرء أنصارًا من غير قبيلِه وبني وطنه، وذِكْرُه يفوح شذًى عبقًا، تعطر به المجالس، وتتأرج به المنتديات.
 
أمَّا الشحيح فمذمومٌ ممقوت، ومكروه مبغض، إن ذُكِر انهال الحاضرون ذامَّين له، ساخطين من لؤمه وبُخْله، وإن رأوه احتقروه، وأسمعوه قارِص القول، وقارع الكلم، فمالُه وبالٌ عليه، وثراؤه نكبةٌ تحلُّ به حيًّا وميتًا - أعاذنا الله من حاله.
 
قال دعبل: أقمْنا يومًا عندَ سهل بن هارون، فأطلْنا الحديث، حتى اضطره الجوعُ إلى أن دعا بغدائه، فأتى بصَحْفة عدملية، فيها مَرَق لحم ديك عاس هرم، ليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تحزُّ فيه السكين، ولا تؤثِّر فيه الأضراس، فاطلع في القصعة، وقلَّب بصره فيها، فأخذ قطعة خبز يابس فقلَّب بها جميع ما في الصحفة، ففقد الرأس فبَقِي مطرقًا ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام، وقال: أين الرأس؟ قال: رميتُ به، قال: ولِمَ؟ قال: ما ظننتُ أنك تأكله، وتسأل عنه، قال: ولأيِّ شيء ظننتَ ذلك؟ فوالله إني لأمقتُ مَن يرمي برجله، فكيف مَن يرمي برأسه، والرأس رئيسٌ، وفيه الحواس الخمس، ومنه يُصيح الديك، ولولا صوتُه ما أريد، وفيه عُرْفُه، وفيه عينُه التي يُضرَب بها المثل، فيقال: شراب كعَيْن الديك، ودماغه عجبٌ لوجع الكُلية، ولن ترى عظمًا قطُّ أهش من عظم رأسه، فإن كان مِن نبل أنك لا تأكلُه، فإنَّ عندنا من يأكلُه، أو ما علمت أنه خيرٌ من طرف الجَناح، ومن الساق، ومن العنق، انظر أين هو؟ قال: لا واللهِ لا أدري أين هو رميتُ به، قال: لكني أدري أنَّك رميتَ به في بطنك، والله حسبك.
 
نادرة:
قيل لطُفيلي: ما تحفظ من القرآن؟ قال قوله تعالى: ﴿ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف: 62].
 
وقال رجل لبعض الكِبار: لِمَ لا تدعوني لوليمتك؟ فقال: لأنَّك جيِّد المضغ، شديدُ البلْع، إذا أكلتَ لقمة هيأتَ أخرى، فقال: أتريدني إذا أكلتُ لقمة أن أصلِّيَ ركعتين بين كلِّ لُقمتَين!!
 
وقال الحُسين بن عبدالرحيم بن الوليد الكلابي المعروف بأبي الزلازل:
فَتًى لِرَغَيفِهِ قُرْطٌ وَشَنْفٌ
وَإِكْلِيلاَنِ مِنْ حَذْرٍ وَشَزْرِ
إِذَا كُسِرَ الرَّغِيفُ بَكَى عَلَيْهِ
بُكَا الْخَنْسَاءِ إِذْ فُجِعَتْ بِصَخْرِ
 
روي أنَّ شخصًا كانت له بقرةٌ، وكان يشوب لبنَها بالماء ويبيعه، فجاء السيل في بعض الأودية وهي واقفةٌ، فمرَّ عليها فغرقها، فجلس صاحبُها يندبها، فقال له بعض بنيه: يا أبتِ لا تندبها، فإنَّ المياه التي كنَّا نخلطها بلبنها اجتمعتْ فغرقتها.

ومن نوادر البخلاء:
قال رجل من البخلاء لأولاده: اشتروا لي لحمًا، فاشتروه، فأمَرَ بطبخه، فلمَّا استوى أكله جميعَه، حتى لم يُبقِ في يده إلا عظمة، وعيونُ أولاده ترمُقه، فقال: ما أُعطي أحدًا منكم هذه العظمةَ حتى يُحسِنَ وصْف أكلها، فقال ولدُه الأكبر: أمششها يا أبت، وأمصها حتى لا أدعَ للذرِّ فيها مقيلاً، قال: لستَ بصاحبها، فقال الأوسط: ألوكُها يا أبت، وألحسُها حتى لا يدريَ أحدٌ لعام هي أم لعامَين، قال: لستَ بصاحبها، فقال الأصغر: يا أبتِ أَدقها وأسفُّها سفًّا، قال: أنتَ صاحبها وهي لك، زادك الله معرفةً وحزمًا.
 
حُكِي عن بعض البخلاء: أنَّه استأذن عليه ضيفٌ وبين يديه خبزٌ، وزبدية فيها عسل نحل، فرفع الخبز، وأراد أن يرفع العسل فدَخَل الضيف مِن قَبلِ أن يرفعه، فظنَّ البخيل أن ضيفه لا يأكل العسلَ بلا خبز، فقال له: ترى أن تأكل عسلاً بلا خبز؟ قال: نعمْ وجعل يلعق العسل لعقةً بعد لعقة، فقال له البخيل: مهلاً يا أخي، والله إنه يحرِق القلْب، قال: نعم، صدقتَ، ولكنَّه قلبك.
 
سأل رجلٌ أشعبَ أن يسلِّفه ويؤخِّره، فقال: هاتانِ حاجتان، فإذا قضيتُ لك إحداهما فقد أنصفت، قال الرجل: رضيتُ، قال: فأنا أؤخِّرك ما شئتَ، ولا أسلِّفك.
 
قال الشاعر:
وَلَيْسَتْ أَيَادِي النَّاسِ عِنْدِي غَنِيمَةً
وَرُبَّ يَدٍ عِنْدِي أَشَدُّ مِنَ الْأَسْرِ
 
وقف أعرابي على أبي الأسود الدؤلي وهو يأكل، فقال الأعرابي: أدخل؟ قال: وراءَك أوسعُ لك، قال: الرمضاء أحرقتْ رِجلي، قال: بل عليهما تبردان، قال: أتأذن لي أن آكل معك؟ قال: سيأتيك ما قُدِّر لك، قال: تالله ما رأيت رجلاً ألأمَ منك، قال: بلى قد رأيتَ إلاَّ أنك نسيت، ثم أقبل أبو الأسود يأكل حتى إذا لم يَبقَ في الطبق إلاَّ تُميرات يسيرة نبذَها له، فوقعت تمرةٌ منها فأخذَها الأعرابي، ومسحَها بكسائه، فقال أبو الأسود: يا هذا، إنَّ الذي تمسحها به أقذرُ مِن الذي تمسحها له، قال: كرهتُ أن أدعها للشيطان، قال لا والله، ولا لجبريل وميكائل، ما كنت لتدعَها!!
 
قيل لبعض البخلاء: ما الفرجُ بعدَ الشدَّة؟ قال: أن يعتذرَ الضيف بالصَّوْم.
 
قال الجاحظ للحزامي: أترضَى أن يُقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم؛ لأنَّه لا يُقال لي بخيل إلاَّ وأنا ذو مال، فسلِّم لي المال، وسمِّني بأيِّ اسمٍ شئت.
 
قيل لأعرابي: ما حدُّ الشِّبَع؟ قال: أما عندَ الحاضرة فلا أدري، وأمَّا عندنا في البادية فما وجدتِ العين، وامتدتْ إليه اليد، ودار عليه الضِّرْس، وأساغَه الحَلْق، وانتفخ به البطن، واستدارتْ عليه الحوايا، واستغاثتْ منه المَعِدة، وتقوَّستْ منه الأضلاع، والْتوتْ عليه المصارين، وخِيف منه الموْت.
 
قال محمد بن بشير:
لَقَلَّ عَارًا إِذَا ضَيْفٌ تَضَيَّفَنِي
مَا كَانَ عِنْدِي إِذَا أَعْطَيْتُ مَجْهُودِي
فَضْلُ الْمُقِلِّ إِذَا أَعْطَاهُ مُصْطَبِرًا
وَمُكْثِرٍ فِي الْغِنَى سِيَّانِ فِي الْجُودِ
لاَ يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ أَفْعَلُهُ
إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنَ مَرْدُودِي
 
كان لزياد بن عبدالله الحارثي جدي لا يمسه أحد فَعشَّى في شهر رمضان قومًا فيهم أشعب فعرض أشعب يومًا للجدي من بين القوم فقال زياد حين رفعت المائدة: أما لأهل السجن إمام يصلي بهم، قالوا: لا قال: فليصل بهم أشعب، قال أشعب: أو غير ذلك أيها الأمير، قال: وما هو؟ قال: لا آكل لحم جدي أبدًا.
 
قال الشاعر:
يَا ذَاهِبًا فِي دَارِهِ جَائِيًا
بِغَيْرِ مَعْنًى بَلْ وَلاَ فَائِدَهْ
قَدْ جُنَّ أَضْيَافُكَ مِنْ جُوعِهِمْ
فَاقْرَأْ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الْمَائِدَهْ
 
ذكر الأصمعيُّ أن أعرابيًّا خرج في سفر ومعه جماعةٌ، فعدم بعضُهم الزاد، وحضر وقتُ الغداء، وجعل بعضهم ينتظر بعضًا بالغداء، فلمَّا أبطأ ذلك عليهم عَمَد بعضُهم إلى زاده فألقاه بين يدي القوم، فأقبلوا يأكلون وجلس صاحبُ الزاد بعيدًا؛ للتوفير عليهم، فصاح به أعرابي: يا سؤدداه، وهل شرفٌ أفضل من إطعام الطعام، والإيثار به في وقت الحاجة إليه؟! لقد آثرتَ في مَخْمصة ومَسْغبة، وتفرَّدتَ بمكرمة قعد عنها مَن أرى من نُظرائك، فلا زالت نِعمُ الله عليك غاديةً ورائحة.
 
كان أبو هريرة إذا استثقل رجلاً، قال: اللهمَّ اغفر له، وأرِحْنا منه.
 
آداب الأكل:
للأكل آداب، وللموائد قواعد:
فمن آدابه: غَسْل اليدين قبلَ الأكل وبعدَه، والتسميةُ عند الأكْل، وأن يأكَل بيمينه، ويأكل بثلاث أصابع، ويحمد الله بعدَ انتهائه من الأكْل، ويُستحسن أن يدعوَ لصاحب الأكْل إذا كان قد أكل عند أحد.
 
وينبغي أن يجتنب الأكل متكئًا، ولا ينفخ في الإناء ولا يتنفس فيه، سواء كان إناءَ أكْل أو شُرْب، ولا يقوم من المائدة مسرعًا لِمَا يسببه من إزعاج الآكلين، ولا يأكل بِنَهَمٍ، ولا يخبط في الإناء خبطًا، بل يأكل ممَّا يليه، ولا يأكل بشراهة حتى يمتلئ بطنُه، بل الأَوْلى أن يأكل ويشرب بمقدار الثُّلثَين، ويدع ثلثًا للنَّفَس، حتى لا يصاب بالتخمة، فُربَّ أكلة منعت أكلات.
 
هذه آدابٌ شرعيَّة، وفضائلُ إسلامية تتفق مع الطبائع السليمة، والعادات الرفيعة، وتتقبَّلها النفوس الصافية بحُبور وترحيب.
 
كان أبو عبدالرحمن الثوريُّ يُقعد ابنَه معه على خِوانه يومَ الرأس، ثم يقول: إيَّاك ونَهمَ الصبيان، وأخلاقَ النوائح، ودعْ عنك خبطَ الملاَّحين والفَعَلة، ونهش الأعراب والمَهَنة، وكُلْ ما بين يديك، فإنَّ حظَّك الذي وقع وصار إليك.
 
واعلم أنه إذا كان في الطعام شيءٌ طريف، أو لقمة كريمة، أو بضعة شهية، فإنَّما ذلك للشيخ المعظَّم، والصبي المدلَّل، ولستَ واحدًا منهما، وأنت قد تأتي الدعوات، وتجيب الولائم، وتدخل منازل الإخوان وعهدك باللحم قريب، وإخوانك أشدُّ قرمًا إليه منك، وإنما هو رأسٌ واحد، فلا عليك أن تتجافى عن بعض وتُصيب بعضًا، وأنا بعدُ أكره لك الموالاةَ بين اللحم، فإنَّ الله يبغض أهلَ البيت اللحميِّين، وكان يقال: مدمن اللحم كمدمن الخمر.
 
ورأى رجل رجلاً يأكل لحمًا، فقال: لحم يأكل لحمًا، أفٍّ لهذا عملاً.
 
وكان عمر يقول: إيَّاكم وهذه المجازرَ، فإنَّ لها ضراوةً كضراوة الخمر.
 
يا بُنيّ، عوِّد نفسك الأَثرة، ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهشْ نهش السِّباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكْل إدمانَ النعاج، ولا تلقم لقمَ الجمال، فإنَّ الله - تعالى - جعلك إنسانًا وفضَّلك، فلا تجعل نفسَك بهيمة ولا سبعًا، واحذرْ سرعةَ الكظَّة (الامتلاء من الطعام)، وسرف البطنة.
 
قال أبو بكر الهذلي: إذا جمع الطعام أربعًا، فقد كَمُل وطاب: إذا كان حلالاً، وكثرتِ الأيدي عليه، وسُمِّي الله - تعالى - في أوَّله، وحُمِد في آخره.
 
نادرة:
وقف قوم إلى طبَّاخ، فأخذ أحدُهم قطعةَ لحم فأكلها، وقال: يحتاج القدر إلى إبزار، وأخذ آخرَ قطعة لحم، فقال: يحتاج القدر إلى مِلح، فأخذ الطبَّاخ قطعة لحم، وقال: تحتاج القدر إلى لحم، فتضاحكوا منه وانصرفوا.
 
قال معاوية: ما رأيتُ سرفًا قط إلا وإلى جنبه حقٌّ مضيَّع.
 
منتهى الكسل:
ضمَّ عثمانَ بن رواح السفرُ ورفيقًا له، فقال له الرفيق: امضِ إلى السوق فاشترِ لنا لحمًا، قال: واللهِ ما أقدر، قال: فمضى الرفيق واشترى اللحم، ثم قال لعثمان: قمِ الآن فاطبخ القدر، قال: واللهِ ما أقدر، فطبخها الرفيق.
 
ثم قال: قم الآنِ فاثرد، قال: والله إني لأعجز عن ذلك، فثرد الرفيق، ثم قال: قم الآن فكل، فقال: والله لقد استحييتُ من كثرة خلافي عليك، ولولا ذلك ما فعلت.
 
قال نصر بن سيَّار لأعرابي: هل أتْخمتَ قط؟ قال: أما مِن طعامك وطعام أبيك فلا.
 
ويقال: إنَّ نصرًا حُمَّ من هذا الجواب أيَّامًا، وقال: ليتني خرستُ ولم أَفُهْ بسؤال هذا الشيطان.
 
كان هلال بن الأسعر التميمي أكولاً، فيزعمون أنه أكَلَ فصيلاً، وأكلتِ امرأتُه فصيلاً، فلما أراد أن يجامِعَها لم يصلْ إليها، فقالت له: وكيف تصل إليَّ وبيني وبينك بعيران.
 
قال بكر بن عبيدالله: أحقُّ الناس بلطمةٍ مَن أتى طعامًا لم يُدعَ إليه، وأحقُّ الناس بلطمتين مَن يقول له صاحب البيت: اجلسْ ها هنا، فيقول: لا ها هنا، وأحقُّ الناس بثلاث لطمات مَن دُعِي إلى طعام، فقال لصاحب المنزل: ادع ربَّةَ البيت تأكل معنا.
 
نهاية البخل:
كان مرْوان بن أبي حفصة من أبْخلِ الناس، فخرج يريد المهدي، فقالت له امرأته: ما لي عليك إن رجعتَ بالجائزة؟ قال: إن أُعطيتُ مائة ألف درهم أعطيتُك درهمًا، فأعطي ستِّين ألف درهم، فأعطاها أربعة دوانق.
 
كان بعض البخلاء موسِرًا كثيرَ الأموال، وكان ينظر في دقائق الأشياء، فاشترى شيئًا من الحوائج، ودعا حمَّالاً، وقال: بكَمْ تحمل هذه الحوائج؟ قال: بحَبَّة، قال: أبخس، قال: ما أقل من حبَّة؟ لا أدري ما أقول، قال: نشتري بالحَبَّة جزرًا، فنجلس جميعًا فنأكله.
 
مرَّ طفيليٌّ بقوم يتغذون، فقال: سلام عليكم معشر اللِّئام، فقالوا: لا والله، بل كرام، فثنى رِجلَه وجلس، وقال: اللهمَّ اجعلهم من الصادقين، واجعلني من الكاذبِين.
 
وقال ربيعةُ بن ثابت بن لجأ الأسدي الرقي:
لَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْيَزِيدَيْنِ فِي النَّدَى
يَزَيدِ سُلَيْمٍ وَالْأَغَرِّ بْنِ حَاتِمِ
يَزِيدُ سُلَيْمٍ سَالِمُ الْمَالِ وَالْفَتَى
أَخُو الْأَزْدِ لِلْأَمْوَالِ غَيْرُ مُسَالِمِ
فَهَمُّ الْفَتَى الْأَزْدِيِّ إِتْلاَفُ مَالِهِ
وَهَمُّ الْفَتَى الْقَيْسِيِّ جَمْعُ الدَّرَاهِمِ
 
كان أحد البخلاء إذا وضع الدرهم بيده طنَّه بظُفره، وقال: أيا درهم، كم من مدينة دخلتَها، وأيد دوختَها، فالآن استقرَّ بك القرار، واطمأنتْ بك الدار، ثم رمَى به في الصُّندوق.
 
سأل رجلٌ من الأعراب رجلاً فلم يعطِه شيئًا، فقال:
كَدَحْتُ بِأَظْفَارِي وَأَعْمَلْتُ مِعْوَلِي
فَصَادَفْتُ جُلْمُودًا مِنَ الصَّخْرِ أَمْلَسَا
تَشَاغَلَ لَمَّا جِئْتُ فِي وَجِهِ حَاجَتِي
وَأَطْرَقَ حَتَّى قُلْتُ قَدْ مَاتَ أَوْ عَسَى
وَأَجْمَعْتُ أَنْ أَنْعَاهُ حِينَ رَأَيتُهُ
يَفُوقُ فَوَاقَ الْمَوْتِ ثُمَّ تَنَفَّسَا
فَقُلْتُ لَهُ لاَ بَأْسَ لَسْتُ بِعَائِدٍ
فَأَفْرَخَ تَعْلُوهُ الْكَآبَةُ مُبْلِسَا
 
دعاء:
اللهمَّ إني أعوذ بك مِن بطر الغِنى، وذِلَّة الفقر.
 
قال الشعبي: ما أفلحَ بخيلٌ قطُّ، أما سمعت قولَ الله – تعالى -: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
 
ذكر أعرابيٌّ رجلاً، فقال: كان واللهِ إذا نزلتْ به الحوائج، قام إليها، ثم قدِم بها، ولم تقعد به علاَّت النفوس.
 
وقال حمزة بن علي أبو يعلى:
الْمَالُ يَرْفَعُ مَا لاَ يَرْفَعُ الْحَسَبُ
وَالْوُدُّ يَعْطِفُ مَا لاَ يَعْطِفُ النَّسَبُ
وَالْحِلْمُ آفَتُهُ الْجَهْلُ الْمُضِرُّ بِهِ
وَالْعَقْلُ آفَتُهُ الْإِعْجَابُ وَالْغَضَبُ
 
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -:
تهادَوْا عباد الله، يتجدَّدْ في قلوبكم الودّ، وتذهب السخيمة.
 
وقال سفيان الثوري: إني لألْقى الرجل، فيقول لي: مرحبًا، فيلين له قلبي، فكيف بمَن أطأ بِساطَه، وآكل ثريده، وأزدرد عصيده.
 
أنشد أحمد بن يحيى:
أَتَيْتُ بَنِي عَمِي وَرَهْطِي فَلَمْ أَجِدْ
عَلَيْهِمْ إِذَا اشْتَدَّ الزَّمَانُ مُعَوَّلاَ
وَمَنْ يَفْتَقِرْ فِي قَوْمِهِ يَحْمَدِ الْغِنَى
وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَاجِدَ الْعَمِّ مُخْوِلاَ
يَمُنُّونَ أَنْ أَعْطَوْا وَيَبْخَلُ بَعْضُهُمْ
وَيَحْسَبُ عَجْزًا سَمْتَهُ إِنْ تَجَمَّلاَ
وَيُزْرِي بِعَقْلِ الْمَرْءِ قِلَّةُ مَالِهِ
وَإِنْ كَانَ أَقْوَى مِنْ رِجِالٍ وَأَحْوَلاَ
فَإِنَّ الْفَتَى ذَا الْحَزْمِ رَامَ بِنَفْسِهِ
حَوَاشِيَ هَذَا اللَّيْلِ كَيْ يَتَمَوَّلاَ
 
دخل على ابنٍ لرجلٍ من الأشراف داخلٌ وبيْن يديه فراريج، فغطَّى الطبق بمِنديله، وأدخل رأسه في جَيْبه، وقال للداخل عليه: كن في الحُجرة الأخرى حتى أفرغ مِن بخوري.
 
قيل لأعرابي: مَن أحقُّ الناس بالرحمة؟ قال: الكريم يُسلَّط عليه اللئيم، والعاقل يُسلَّط عليه الجاهل.
 
وقيل له: أيُّ الداعين أحقُّ بالإجابة؟ قال: المظلوم.
 
قال سفيان الثوري: لأن أُخلِّف عشرةَ آلاف درهم يحاسبني الله عليها، أحبُّ إليَّ من أن أحتاج إلى لئيم.
 
قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه -:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ
وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ
عَلَى مُكْثِريهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمْ
وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ
فَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا
تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
وَهَلْ يُنْبِتُ الْخَطِّيَّ إِلاَّ وَشِيجُهُ
وَتُغْرَسُ إِلاَّ فِي مَنَابِتِهَا النَّخْلُ
 
قال بعض الشعراء:
إِذَا كُنْتَ جَمَّاعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا
فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ
تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إِلَى غَيْرِ حَامِدٍ
فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ
 
كَتَب الحسن بن عليٍّ إلى أخيه يعتب عليه في إعطاءِ الشعراء، فأجابه: خيرُ المال ما وُقِي به العِرْض.
 
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أخوفُ ما أخاف عليكم: شُحٌّ مُطاع، وهوى متَّبع، وإعجاب المرْء بنفسه.
 
قال عبدالرحمن بن عوف: يا حبَّذا المال، أصونُ به عِرْضي، وأتقرَّب به إلى ربِّي.
 
قال بعض الشعراء:
الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَوْتِ أُحْدُوثَةٌ
يَفْنَى وَتَبْقَى مِنْهُ آثَارُهُ
يَطْوِيهِ مِنْ أَيَّامِهِ مَا طَوَى
لَكِنَّهُ تُنْشَرُ أَسْرَارُهُ
وَأَحْسَنُ الْحَالاَتِ حَالُ امْرِئٍ
تَطِيبُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَخْبَارُهُ
يَفْنَى وَيَبْقَى ذِكْرُهُ بَعْدَهُ
إِذَا خَلَتْ مِنْ شَخْصِهِ دَارُهُ
 
قال بعضُهم: إنما الناس أحاديث، فإنِ استطعت أن تكونَ أحسنَهم حديثًا فافعلْ.
 
وقف معاوية على امرأةٍ مِن بني كنانة، فقال لها: هل مِن قِرًى؟ قالت: نعم، قال: وما قراك؟ قالت: عندي خُبزٌ خمير، ولَبَنٌ فطير، وماءٌ نمير.
 
باع طلحة بن عثمان - رضي الله عنه - أرضًا بسبعمائة ألف درهم، فلمَّا جاءه المال قال: إنَّ رجلاً يَبيت هذا عندَه لا يدري ما يطرقه لغريرٌ بالله تعالى، ثم قسمَه في المسلمين!
 
 
 
 
 
 

ليست هناك تعليقات: